16 - 08 - 2024

وجهة نظري | زلزلة الأرض والقلوب

وجهة نظري | زلزلة الأرض والقلوب

اهتزت الأرض بقوة .. لم تتوقف حركتها المفزعة بسرعة ، مر وقت طويل كأنه الدهر بين نوم ويقظة اضطرب العقل ، عجز عن التفسير والتفكير .. تداعت الأسئلة ، وتوالت الشكوك .. هل مانشعر به حقيقة أم  كابوسا ، أو إنه بفعل اضطرابات النفس التي أصبحت أسيرة الحزن لتعيش ماتبقى لها من عمر تحت أثر زلزال الفقد الموجع !!

لم يكن كابوسا ، بل كان أشد من الكابوس قسوة .. زلزال مدمر تجاوز السبع درجات بمقياس ريختر ، بالتحديد 7.8درجة ، كان مركزه مدينة نورداى التركية ويبعد 26 كيلومترا عن شرقها وعلى عمق 81 كيلومترا عن فالق شرق الأناضول .. ضرب تركيا وسوريا الاثنين الماضي وامتد أثره آلاف الكيلومترات ليصل إلى مصر والأردن ولبنان والعراق ، وصنفه الخبراء الجيولوجيون على أنه واحد من أقوى الزلازل وعدد الضحايا .. والذين قدرت منظمة الصحة العالمية عددهم  في كل من سوريا وتركيا بأكثر من 16 ألف قتيل وما يزيد عن 23 مليون متضرر فضلا عن انهيار أكثر من ستة آلاف مبنى وقدرت الخسائر الاقتصادية بمليارات الدولارات في كلا البلدين.

تسمرت العيون وتوقفت العقول وتقطعت القلوب ، بينما تتداعى مشاهد الدمار .. عمارات شاهقة تتحول فجأة لكومة من التراب ، ترى كم أسرة راحت تحت تلك الأنقاض ، كم حلم ضاع ، كم أم احترق قلبها فزعا على صغيرها ، كم أب اعتصره العجز وقلة الحيلة وعدم القدرة أن يمد يد العون ينقذ بها أسرته.

ترى كيف كانت حياة تلك الأسر قبل الدمار .. تداعت الحوائط التي كانت شاهدة على تفاصيل حياتهم ، أصوات ضحكاتهم ، دموعهم ، همومهم ، أفراحهم ، وأحلامهم البسيطة منها والمستحيلة .. ضاعت جميعها ، لم يعد سوى حلم واحد لمن كتبت له النجاة ، ألا يكون وحده  من كتب له عمر جديد .. يتضرع إلى الله أن ينجى آخرين ، فبدونهم لا معنى للنجاة والحياة ولا حاجة لعمر جديد.

من رحم الحزن دوما يأتي الفرج ، ومن قلب الكارثة يرسل الله طوق نجاة .. تخفق قلوبنا بينما تتوالى كلمات المراسلين تخبرنا عن إنقاذ أسرة كاملة ، خرج جميع أفرادها من تحت الأنقاض ، نحمد الله على سلامتهم.

تأخذنا صورة أخرى لطفلة تحتضن شقيقها تحاول أن تحمى رأسه بيدها الصغيرة ، حولتها الكارثة لأم لعبت الدور بتلقائية ودون أن تدري ، نجحت فيما لم تتعمده وأتقنته بتلقائية وشت به ملامح وجه الصغير الذى بدا مطمئنا هادئا ، يعرف أن قلبا حنونا لن يتخلى عنه ويفعل المستحيل لإنقاذه.

وتجلت قدرة الخالق القادر أن يخرج الحى من الميت ، في ذلك الوليد الذى حمله أحد رجال الإنقاذ مسرعا بعدما عثروا عليه وما زال الحبل السرى يصله بأمه التي قدر لها ألا ترى وليدها ليخرج للحياة يتيما.

تتوالى المشاهد وتختلط المشاعر ، تخفق قلوبنا حزنا مرة وقلقا مرة ورعبا ثالثة وضاحكة رغما عنها رابعة ، عندما يخرج علينا صغير تتلقفه الأيدى فرحة بينما تصفق أخرى مهللة فيملؤه الزهو رغما عنه أو ربما يزيده اضطرابا ، فترتسم على وجهه رغما عنه إبتسامة بريئة صافية بينما تمتد يده الصغيرة لتضرب بخفة كل الوجوه من حوله ، لاندرى هل يداعبها أم يعاقبها على ما اعتبره تقصيرا في حقه وتركه وحده يتجرع ساعات من الوحدة والخوف والرعب ، سرعان ماتجاوزها بذاكرة طفل يمحو بسرعة الأحزان ليشارك من حولة الفرحة على طريقته التي لم تخل من لوم واضح وعتاب.

تختلط المشاعر بينما تتوالى مشاهد الناجين ، تربكنا صورهم بقدر ماتعزينا ، نفرح بنجاة روح نشعر وكأنها انتزعت من بين براثن الموت ، تربكنا في نفس الوقت عندما نتساءل عن مصير ذويها .. هل كتبت لهم النجاة ليعود شمل الأسرة ، أم أن الموت اختطف أما أو أبا أو أختا أو أخا ، ليتربص الفقد بمصير من نجا ، فنشفق عليهم موقنين أن آلام الفقد التي تنتظرهم ربما لا تقل قسوة عن الموت الذي نجوا منه.

تتوالى رسائل الموت ، نشعر بضآلة أزماتنا ، تهون كل مشاكلنا مادامت حياتنا آمنة بين حوائط بيت مازال يأوينا وأسرة مازال دفء قلوبها يحمينا .. ندرك نعمة الشعور بالأمان ، وندعو الله أن يديم علينا نعمه التي نغفل عنها أحيانا ، فتحيل حياتنا لجحيم.

شعورنا بتلك النعمة يجعلنا أكثر تعاطفا مع حال المنكوبين بالزلزال المدمر في تركيا وسوريا ، وإن كان تعاطفنا مع الشعب السورى أكثر ليس لأنه شعب عربى شقيق ، لكن لأن مايعانى منه السوريون طوال سنوات طويلة من حصار اقتصادى وعقوبات وتردى معيشى لم يكن هينا ، وجاء الزلزال ليزيد الأزمة تفاقما والتردي اختناقا.

قارننا رغما عنا بين عمليات الإنقاذ في تركيا وسوريا ، بدا الفرق كبيرا بين بلد لديه إمكانات حديثة وفرق إنقاذ مدربة وتقنيات فائقة تسخر جميعها للبحث عن أرواح مازالت تئن تحت وطأة الأنقاض ، تنتشلها بمهارة وكفاءة .. بينما يفتقد آخرون كتب عليهم أن يموتوا مرتين الأولى أحياء محرومون من أبسط احتياجاتهم ، والثانية تحت أنقاض لم تفلح فرق الإنقاذ بإمكاناتها البسيطة وقدراتها المحدودة في إنقاذهم منها.

غاب الضمير الإنساني الدولى كالعادة ، وإن حاول تخدير مسامعنا كعادته أيضا بالكلمات ، لكن الواقع كان أقبح من أن تجمله تلك الكلمات ، حتى المساعدات الخجولة وصلت كعادتها متأخرة فبهت تأثيرها وضعفت في أداء مهامها .. بات الحصار محكما والعقوبات لا هوادة فيها ، وكتب على الشعب السورى أن يظل يدفع ثمن أطماع خارجية وتواطؤ إقليمى وعجز داخلى وسياسة قمع أودت بالشعب المنكوب إلى مصير لا يحسد عليه.

لم تتزلزل الأرض وحدها ، لكن القلوب زلزلت معها ، وربما كان لوقعها أثرا أكبر وأقسى وأكثر وجعا وحزنا واضطرابا .. تغمدنا الله جميعا برحمته ، ووقانا شر زلزلة الأرض والقلوب.
--------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

وجهة نظري | الموت قهرا